الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.من فوائد ابن العربي في الآية: قال رحمه الله:قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنْ اللَّهِ وَاَللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.فِيهَا تِسْعٌ وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً:الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي شَرَحَ حَقِيقَةِ السَّرِقَةِ: وَهِيَ أَخْذُ الْمَالِ عَلَى خُفْيَةٍ مِنْ الْأَعْيُنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ قَطْعِ النَّبَّاشِ مِنْ مَسَائِلِ الْخِلَافِ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ فِي كُتُبِهِ.وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ: السَّارِقُ هُوَ الْمُعْلِنُ وَالْمُخْتَفِي.وَقَالَ ثَعْلَبٌ: هُوَ الْمُخْتَفِي، وَالْمُعْلِنُ عَادٍ.وَبِهِ نَقُولُ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْمُلْجِئَةِ.الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْأَلِفُ وَاللَّامُ مِنْ السَّارِقِ وَالسَّارِقَةِ بَيَّنَّا مَعْنَاهُمَا فِي الرِّسَالَةِ الْمُلْجِئَةِ.وَقُلْنَا: إنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ يَجْتَمِعَانِ فِي الِاسْمِ وَيَرِدَانِ عَلَيْهِ لِلتَّخْصِيصِ وَلِلتَّعْيِينِ، وَكِلَاهُمَا تَعْرِيفٌ بِمَنْكُورٍ عَلَى مَرَاتِبَ؛ فَإِنْ دَخَلَتْ لِتَخْصِيصِ الْجِنْسِ فَمِنْ فَوَائِدِهَا صَلَاحِيَةُ الِاسْمِ لِلِابْتِدَاءِ لَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}.و{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}.وَإِنْ دَخَلَتْ لِلتَّعْيِينِ فَفَوَائِدُهُ مُقَرَّرَةٌ هُنَالِكَ، وَهِيَ إذَا اقْتَضَتْ تَخْصِيصَ الْجِنْسِ أَفَادَتْ التَّعْمِيمَ فِيهِ بِحُكْمِ حَصْرِهَا لَهُ عَنْ غَيْرِهِ إذَا كَانَ الْخَبَرُ عَنْهَا وَالْمُتَعَلِّقُ بِهَا صَالِحًا فِي رَبْطِهِ بِهَا دُونَ مَا سِوَاهَا، وَهَذَا مَعْلُومٌ لُغَةً.وَقَدْ أَنْكَرَهُ أَهْلُ الْوَقْفِ فِي هَذَا الْبَابِ وَغَيْرِهِ كَمَا أَنْكَرُوا جَمِيعَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ عَلَيْهِمْ فِي التَّلْخِيصِ.وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} عَامٌّ فِي كُلِّ سَارِقٍ وَسَارِقَةٍ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: رَدًّا عَلَى مَنْ يَرَى أَنَّهُ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ، وَذَلِكَ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ الْمُجْمَلَ، وَلَا الْعَامَّ؛ فَإِنَّ السَّرِقَةَ إذَا كَانَتْ مَعْرُوفَةً لُغَةً إذْ لَيْسَتْ لَفْظَةً شَرْعِيَّةً بِاتِّفَاقٍ رُبِطَتْ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ تَخْصِيصًا، وَعُلِّقَ عَلَيْهَا الْخَبَرُ بِالْحُكْمِ رَبْطًا، فَقَدْ أَفَادَتْ الْمَقْصُودَ، وَجَرَتْ عَلَى الِاسْتِرْسَالِ وَالْعُمُومِ، إلَّا فِيمَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ، وَكَذَلِكَ يُرْوَى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَرَأَهَا: {وَالسَّارِقُونَ وَالسَّارِقَاتُ}؛ لِيُبَيِّنَ إرَادَةَ الْعُمُومِ.وَاَلَّذِي يَقْطَعُ لَك بِصِحَّةِ إرَادَةِ الْعُمُومِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْمَعْنَى، وَذَلِكَ مُحَالٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنَّهُ لِحَصْرِ الْجِنْسِ، وَهُوَ الْعُمُومُ.الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَهَا ابْنُ مَسْعُودٍ: وَالسَّارِقَ وَالسَّارِقَةَ بِالنَّصْبِ، وَرُوِيَ عَنْ عِيسَى بْنِ عُمَرَ مِثْلُهُ.قَالَ سِيبَوَيْهِ هِيَ أَقْوَى؛ لِأَنَّ الْوَجْهَ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْي فِي هَذَا النَّصْبُ؛ لِأَنَّ حَدَّ الْكَلَامِ تَقَدُّمَ الْفِعْلَ، وَهُوَ فِيهِ أَوْجَبُ، وَإِنَّمَا قُلْت زَيْدًا ضَرَبَهُ، وَاضْرِبْهُ مَشْغُولُهُ، لِأَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ لَا يَكُونَانِ إلَّا بِالْفِعْلِ، فَلابد مِنْ الْإِضْمَارِ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ.قَالَ الْقَاضِي: أَصْلُ الْبَابِ قَدْ أَحْكَمْنَاهُ فِي الْمُلْجِئَةِ، وَنُخْبِتُهُ أَنَّ كُلَّ فِعْلٍ لابد لَهُ مِنْ فَاعِلٍ وَمَفْعُولِ، فَإِذَا أَخْبَرْت بِهِمْ أَوْ عَنْهُمْ خَبَرًا غَرِيبًا كَانَ عَلَى سِتِّ صِيَغٍ: الْأُولَى: ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْرًا.الثَّانِيَةُ: زَيْدٌ ضَرَبَ عَمْرًا.الثَّالِثَةُ: عَمْرًا ضَرَبَ زَيْدٌ.الرَّابِعَةُ: ضَرَبَ عَمْرًا زَيْدٌ.الْخَامِسَةُ: زَيْدٌ عَمْرًا ضَرَبَ.السَّادِسَةُ: عَمْرًا زَيْدٌ ضَرَبَ.فَالْخَامِسَةُ وَالسَّادِسَةُ نَظْمٌ مُهْمَلٌ لَا مَعْنَى لَهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَجَاءَ مِنْ هَذَا جَوَازُ تَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ، كَمَا جَازَ تَقَدُّمُ الْفَاعِلِ، بَيْدَ أَنَّهُ إذَا قَدَّمْت الْمَفْعُولَ بَقِيَ بِحَالِهِ إعْرَابًا، فَإِذَا قَدَّمْت الْفَاعِلَ خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ الْحَدِّ فِي الْإِعْرَابِ، وَبَقِيَ الْمَعْنَى الْمُخْبَرُ عَنْهُ، وَحَدَثَ فِي تَرْتِيبِ الْخَبَرِ مَا أَوْجَبَ تَغْيِيرَ الْإِعْرَابِ، وَهُوَ الْمَعْنَى الَّذِي يُسَمَّى الِابْتِدَاءُ، ثُمَّ يَدْخُلُ عَلَى هَذَا الْبَابِ الْأَدَوَاتُ الَّتِي وُضِعَتْ لِتَرْتِيبِ الْمَعَانِي وَهِيَ كَثِيرَةٌ أَوْ الْمَقَاصِدِ وَهِيَ أَصْلٌ فِي التَّغْيِيرِ، وَمِنْهَا وَضْعُ الْأَمْرِ مَوْضِعَ الْخَبَرِ، تَقُولُ: اضْرِبْ زَيْدًا.وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ اسْتِدْعَاءَ إيقَاعِ الْفِعْلِ بِالْمَفْعُولِ، وَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ هُنَالِكَ فَاعِلٌ سَقَطَ فِي إسْنَادِ الْفِعْلِ، وَثَبَتَ فِي تَعَلُّقِ الْخِطَابِ بِهِ وَارْتِبَاطِهِ، وَتَكُونُ لَهُ صِيغَتَانِ: إحْدَاهُمَا هَذِهِ.وَالثَّانِيَةُ: زَيْدًا اضْرِبْ، كَمَا كَانَ فِي الْخَبَرِ؛ وَلَا يُتَصَوَّرُ صِيغَةٌ ثَالِثَةٌ، فَلَمَّا جَازَ تَقْدِيمُهُ مَفْعُولًا كَانَ ظَاهِرُ أَمْرِهُ أَلَّا يَأْتِيَ إلَّا مَنْصُوبًا عَلَى حُكْمِ تَقْدِيرِ الْمَفْعُولِ، وَلَكِنْ رَفَعُوهُ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ بَعْدُ، وَإِنَّمَا يُطْلَبُ وُقُوعُهُ بِهِ فَيُخْبِرُ عَنْهُ، ثُمَّ يَقْتَضِي الْفِعْلَ فِيهِ، فَإِنْ اقْتَضَى وَلَمْ يُخْبِرْ لَمْ يَكُنْ إلَّا مَنْصُوبًا، وَإِنْ أَخْبَرَ وَلَمْ يَقْتَضِ لَمْ يَكُنْ إلَّا مَرْفُوعًا، فَهُمَا إعْرَابَانِ لِمَعْنَيَيْنِ، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا أَقْوَى مِنْ الْآخَرِ.تَتْمِيمٌ: فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقُلْت: زَيْدٌ فَاضْرِبْهُ فَإِنْ نَصَبْته فَعَلَى تَقْدِيرِ فِعْلٍ، وَإِنْ رَفَعْته فَعَلَى تَقْدِيرِ الِابْتِدَاءِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى قَصْدِ الْمُخْبِرِ، وَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ مَعَ النَّصْبِ اضْرِبْ زَيْدًا فَاضْرِبْهُ، فَأَمَّا إذَا طَالَ الْكَلَامُ فَقُلْت: زَيْدًا فَاقْطَعْ يَدَهُ كَانَ النَّصْبُ أَقْوَى؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ يَطُولُ فَيَقْبُحُ الْإِضْمَارُ فِيهِ لِطُولِهِ.وَهَذَا قَالَبُ سِيبَوَيْهِ أَفْرَغْنَا عَلَيْهِ.وَأَقُولُ: إنَّ الْكَلَامَ إذَا كَانَ فِيهِ مَعْنَى الْجَزَاءِ، أَوْ كَانَتْ الْفَاءُ فِيهِ مُنَزَّلَةً عَلَى تَقْدِيرِ جَوَابِهِ فَإِنَّ الرَّفْعَ فِيهِ أَعْلَى؛ لِأَنَّ الِابْتِدَاءَ يَكُونُ لَهُ، فَلَا يَبْقَى لِتَقْدِيرِ الْمَفْعُولِ إلَّا وَجْهٌ بَعِيدٌ؛ فَهَذَا مُنْتَهَى الْقَوْلِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ.وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَامَّةٌ، لَا طَرِيقَ لِلْإِجْمَالِ إلَيْهَا، فَالسَّرِقَةُ تَتَعَلَّقُ بِخَمْسَةِ مَعَانٍ: فِعْلٌ هُوَ سَرِقَةٌ، وَسَارِقٌ، وَمَسْرُوقٌ مُطْلَقٌ، وَمَسْرُوقٌ مِنْهُ، وَمَسْرُوقٌ فِيهِ.فَهَذِهِ خَمْسَةُ مُتَعَلِّقَاتٍ يَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ عُمُومُهَا إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ.أَمَّا السَّرِقَةُ فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا.وَأَمَّا السَّارِقُ، وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ.الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: السَّارِقُ: فَهُوَ فَاعِلٌ مِنْ السَّرِقَةِ، وَهُوَ كُلُّ مَنْ أَخَذَ شَيْئًا عَلَى طَرِيقِ الِاخْتِفَاءِ عَنْ الْأَعْيُنِ؛ لَكِنَّ الشَّرِيعَةَ شَرَطَتْ فِيهِ سِتَّةَ مَعَانٍ: الْعَقْلُ: لِأَنَّ مَنْ لَا يَعْقِلُ لَا يُخَاطَبُ عَقْلًا.وَالْبُلُوغُ: لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ لَا يَتَوَجَّه إلَيْهِ الْخِطَابُ شَرْعًا.وَبُلُوغُ الدَّعْوَةِ: لِأَنَّ مَنْ كَانَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ وَلَمْ يُثَافَنْ حَتَّى يَعْرِفَ الْأَحْكَامَ، وَادَّعَى الْجَهْلَ فِيمَا أَتَى مِنْ السَّرِقَةِ وَالزِّنَا وَظَهَرَ صِدْقُهُ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ عُقُوبَةٌ كَالْأَبِ فِي مَالِ ابْنِهِ، لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ مِنْ أَطْيَبِ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ».وَلِذَلِكَ قُلْنَا: إذَا وَطِئَ أَمَةَ ابْنِهِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ لِلشُّبْهَةِ الَّتِي لَهُ فِيهَا، وَالْحُدُودُ تَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ، فَهَذَا الْأَبُ وَإِنْ كَانَ جَاءَ بِصُورَةٍ السَّرِقَةِ فِي أَخْذِ الْمَالِ خِفْيَةً فَإِنَّ لَهُ فِيهِ سُلْطَانَ الْأُبُوَّةِ وَتَبَسُّطَ الِاسْتِيلَاءِ، فَانْتَصَبَ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ.وَأَمَّا مُتَعَلِّقُ الْمَسْرُوقِ، وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ.الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: مُتَعَلِّقُ الْمَسْرُوقِ: فَهُوَ كُلُّ مَالٍ تَمْتَدُّ إلَيْهِ الْأَطْمَاعُ، وَيَصْلُحُ عَادَةً وَشَرْعًا لِلِانْتِفَاعِ بِهِ، فَإِنْ مَنَعَ مِنْهُ الشَّرْعُ لَمْ يَنْفَعْ تَعَلُّقُ الطَّمَاعِيَةِ فِيهِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ الِانْتِفَاعُ مِنْهُ، كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ مَثَلًا.وَقَدْ كَانَ ظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي قَطْعَ سَارِقِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ؛ لِإِطْلَاقِ الِاسْمِ عَلَيْهِ وَتَصَوُّرِ الْمَعْنَى فِيهِ.وَقَدْ قَالَ بِهِ قَوْمٌ مِنْهُمْ ابْنُ الزُّبَيْرِ، فَإِنَّهُ يُرْوَى أَنَّهُ قَطَعَ فِي دِرْهَمٍ.وَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ عَنْهُ لَمْ يُلْتَفَتُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ ذَا شَوَاذٍّ، وَلَا يَسْتَرِيبُ اللَّبِيبُ، بَلْ يَقْطَعُ الْمُنْصِفُ أَنَّ سَرِقَةَ التَّافِهِ لَغْوٌ، وَسَرِقَةَ الْكَثِيرِ قَدْرًا أَوْ صِفَةً مَحْسُوبٌ، وَالْعَقْلُ لَا يَهْتَدِي إلَى الْفَصْلِ فِيهِ بِحَدٍّ تَقِفُ الْمَعْرِفَةُ عِنْدَهُ، فَتَوَلَّى الشَّرْعُ تَحْدِيدَهُ بِرُبْعِ دِينَارٍ.وَفِي الصَّحِيحِ، عَنْ عَائِشَةَ: «مَا طَالَ عَلَيَّ وَلَا نَسِيت: الْقَطْعُ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا».وَهَذَا نَصٌّ.وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا قَطْعَ فِي أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَرَوَى أَصْحَابُهُ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا قَدْ بَيَّنَّا ضَعْفَهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَشَرْحِ الْحَدِيثِ.فَإِنْ قِيلَ: قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ وَيَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ» قُلْنَا: هَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ التَّحْذِيرِ بِالْقَلِيلِ عَنْ الْكَثِيرِ، كَمَا جَاءَ فِي مَعْرَضِ التَّرْغِيبِ بِالْقَلِيلِ عَنْ الْكَثِيرِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا وَلَوْ مِثْلَ مَفْحَصِ قَطَاةِ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ».وَقِيلَ: إنَّ هَذَا مَجَازٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا ظَفِرَ بِسَرِقَةِ الْقَلِيلِ سَرَقَ الْكَثِيرَ فَقُطِعَتْ يَدُهُ؛ فَبِهَذَا تَنْتَظِمُ الْأَحَادِيثُ، وَيَجْتَمِعُ الْمَعْنَى وَالنَّصُّ فِي نِظَامِ الصَّوَابِ.الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: وَمِنْهُ كُلُّ مَالٍ يُسْرِعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ مِنْ الْأَطْعِمَةِ وَالْفَوَاكِهِ؛ لِأَنَّهُ يُبَاعُ وَيُبْتَاعُ وَتَمْتَدُّ إلَيْهِ الْأَطْمَاعُ، وَتُبْذَلُ فِيهِ نَفَائِسُ الْأَمْوَالِ.وَشُبْهَةُ أَبِي حَنِيفَةَ مَا يَئُولُ إلَيْهِ مِنْ التَّغَيُّرِ وَالْفَسَادِ، وَلَوْ اُعْتُبِرَ ذَلِكَ فِيهِ لَمَا لَزِمَ الضَّمَانُ لِمُتْلِفِهِ.الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: وَمِنْهُ كُلُّ مَا كَانَ أَصْلُهُ عَلَى الْإِبَاحَةِ؛ كَجَوَاهِرِ الْأَرْضِ وَمَعَادِنِهَا، وَشِبْهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُبَاحَ الْأَصْلِ، ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ الْمِلْكُ، فَتَنْتَصِبُ إبَاحَةُ أَصْلِهِ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْقَطْعِ بِسَرِقَتِهِ.قُلْنَا: لَا تَضُرُّ إبَاحَةٌ مُتَقَدِّمَةٌ إذَا طَرَأَ التَّحْرِيمُ، كَالْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ قَوْمٍ، فَإِنَّ وَطْأَهَا حَرَامٌ يُوجِبُ الْحَدَّ عِنْد خُلُوصِهَا لِأَحَدِهِمْ، وَلَا تُوجِبُ الْإِبَاحَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ شُبْهَةً.وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا قَطْعَ فِي ثَمَرِ وَلَا كَثَرٍ إلَّا مَا أَوَاهُ الْجَرِينُ».رَوَاهُ قَلِيلَهْ وَأَبُو دَاوُد.وَانْفَرَدَ قَلِيلَهْ: «وَلَا فِي حَرِيسَةِ جَبَلٍ إلَّا فِيمَا أَوَاهُ الْمَرَاحُ».الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: وَمِنْهُ مَا إذَا سَرَقَ حُرًّا صَغِيرًا.قَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهِ الْقَطْعُ.وَقِيلَ: لَا قَطْعَ عَلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ.قُلْنَا: هُوَ أَعْظَمُ مِنْ الْمَالِ؛ وَلَمْ يُقْطَعُ السَّارِقُ فِي الْمَالِ لِعَيْنِهِ، وَإِنَّمَا قُطِعَ لِتَعَلُّقِ النُّفُوسِ بِهِ، وَتَعَلُّقِهَا بِالْحُرِّ أَكْثَرُ مِنْ تَعَلُّقِهَا بِالْعَبْدِ.الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: مُتَعَلَّقُ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ: وَهُوَ عَلَى أَقْسَامٍ يَرْجِعُ إلَى أَنَّهُ مَا كَانَ مَالُهُ مُحْتَرَمًا بِحُرْمَةِ الْإِسْلَامِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَقَدْ حُرِّمَ مَالُهُ وَدَمُهُ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ»، إنَّ مَالَ الزَّوْجَيْنِ مُحْتَرَمٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ، وَإِنْ كَانَتْ أَبْدَانُهُمَا حَلَالًا لَهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَتَعَاقَدَا بِعَقْدٍ يَتَعَدَّى إلَى الْمَالِ.وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ: لَا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ تَقْتَضِي الْخِلْطَةَ وَالتَّبَسُّطَ.وَهَذَا بَاطِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا يَجُوزُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَنْ صَاحِبِهِ.وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي مَالِ زَوْجِهِ تَبَسُّطٌ لَسَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ بِوَطْءِ جَارِيَتِهَا، وَلِذَلِكَ قُلْنَا، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ.الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: حُكْمُ السَّارِقِ مِنْ ذِي رَحِمٍ: إنَّ مَنْ سَرَقَ مِنْ ذِي رَحِمٍ مُحْرِمٍ لِمِثْلِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَطْعُ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ ذَاتَ الرَّحِمِ لَوْ وَطِئَهَا لَوَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، فَكَذَلِكَ إذَا سَرَقَ مَالَهَا، وَشُبْهَةُ الْمَحْرَمِيَّةِ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْمَالِ.
|